لقد أدركت أنني إذا أردت تحديد من أنا حقا (أو من كنت)، فإن علي الرجوع
إلى البداية والعودة إلى السعودية، البلاد التي مازالت ثلاث من عماتي يعشن
فيها.
ثمة كمية هائلة من الكتابات الصحفية السلبية عن تلك البلاد، لكنني لن أعرف حقيقتها ما لم أذهب إلى هناك بنفسي.
أردت أن أصهر هذه الرحلة مع جانب آخر من عرضي لهويتي. ففي المدرسة في
اسكتلندا، كتب أصدقائي عني أنني "أقرب لأن أكون مقدمة لبرنامج بلو بيتر" فمنذ صغري كنت اسأل أسئلة باستمرار.
وفي عمر 27 عاما، أعددت عرضا يتضمن مقاطع من مدونتي المصورة (تضم مقاطع
فيديو) عن الأزياء، وراسلت شركات إنتاج طالبة دعمهم لعمل فيلم وثائقي عن
عودتي إلى السعودية. ولحسن الحظ ردت واحدة من الشركات بالإيجاب، وبعد سنتين من التخطيط بتنا المخرجة جيس وأنا جاهزتين للذهاب.
لم أكن أبدا
اعتزم الذهاب إلى الشرق الأوسط لفعل أي شيء ينطوي على مخاطرة. كان هدفي
رؤية إمكانية العيش في السعودية كامرأة شابة تحمل قيما خليطة من الثقافتين الغربية والعربية. أردت أن أفعل أشياء يومية هناك، من أمثال الذهاب لشراء
الطعام ولقاء الأصدقاء.
اليوم، بعد أن رفعت السعودية الحظر المفروض على قيادة النساء للسيارات، أردت أن أجلس وراء عجلة القيادة واستفيد من تلك
الحرية الجديدة.
بالطبع، أعرف أن الاشياء تتم بشكل مختلف هناك.
فللنساء حقوق أقل، على سبيل المثال، لا يمكن للنساء مغادرة البلاد من دون
موافقة الرجل (ولي الأمر)، ولا يمكن لهن امتلاك حساب مصرفي من دون موافقته، فضلا عن جلوسهن في مناطق منفصلة بعيدا عن الرجال في المطاعم.
وعلى
الرغم من هذه القيود، فإن البلاد تتغير. يمكن للنساء الآن التجول من دون وضع النقاب، ويمكنهن أن يعشن حياة اجتماعية بحرية أكبر وأن تكون لديهن
حياتهن المهنية، بيد أن المملكة مازالت تحتفظ بقبضة مشددة على رعاياها
وتسارع للقضاء على أي معارضة.
وقبل مغادرتي بريطانيا في أكتوبر/تشرين الأول العام الماضي، كان لدي بعض الأفكار عن كيفية معاملة السعودية لخصومها. ففي الثاني من الشهر نفسه،
انتشر خبر جمال خاشقجي، الصحفي والمنشق السعودي، الذي اختفى في القنصلية
السعودية في اسطنبول، وتوضح لاحقا أنه قد قتل.
وعلى الرغم من هول هذه القضية، لم أكن خائفة. لم أذهب إلى السعودية كصحفية. كنت صانعة أفلام
ذاهبة لزيارة عائلتي. على الرغم من أنني عندما هبطت في مدينة جدة لبدء
زيارتي للمملكة لمدة أسبوعين، فكرت مع نفسي : "ماذا فعلت؟" ولكن حالما
التقيت بعماتي الثلاث شعرت بالأمان.
كانت عمتي الكبرى تعيش في السعودية منذ 25 عاما و لا تريد العيش في أي مكان آخر. هي لا تحمل الجنسية السعودية، بيد أن لها حياتها المهنية الناجحة
في مجال التعليم، ولم يعق السعوديون أبدا نجاحها هذا. وقد ساعدتني على
التفكير في أنني أيضا استطيع العيش هناك.
ولم تكن عماتي الوحيدات
اللواتي قضينا أيامنا معهن، لقد كلف مسؤولون سعوديون مرافقا حكوميا بمتابعتنا للتأكد من أننا تلتزم بالأعراف المحلية. وكان لدينا أيضا فريق
إنتاج سعودي، مؤلف من سائق ومساعد مصور واثنين من مساعدي الإنتاج.
وعلى الرغم من أن المرافق كان أقل رقابة لنا مما كنت أعتقد، إلا أن مجرد وجوده قربنا كان تطفلا بالتأكيد.
وتدخل
فريق الإنتاج أيضا (لتعديل) سلوكنا، فطلبوا من جيس ومني ارتداء العباءة
احتشاما، كما وبخوني لرقصي على صوت الموسيقى خارج السيارة لأن الرقص في مكان عام غير مسموح به. وبمعزل عن المرافق، خبرنا الحياة السعودية العادية
في التسوق في المولات (مراكز التسوق) ولقاء الأصدقاء وقضاء الوقت مع العائلة.
في إحدى الأماسي، دعانا صديق لأحد أصدقائنا إلى حفلة، وقد
طلبنا سيارة أجرة بمعزل عن الفريق الذي معنا وذهبنا إلى هناك. لقد كانت
أهدأ من بعض الحفلات التي حضرتها في لندن، إذ ظلت النساء محتفظات بزينتهن
ومرتديات ملابسهن الجميلة، و كانت ثمة موسيقى، وقد رقص الجميع. بيد أن
الاختلافات كانت في أن النساء يرتدين ملابس أكثر احتشاما والناس يتصرفون
بطريقة محافظة أكثر ولم تكن هناك مشروبات كحولية.
فالسعودية بلد
قاحل، حيث يمكن أن يعاقب المرء لشرب المشروبات الكحولية، التي يُحرمها الدين الإسلامي، بالسجن. أنا لا أشرب الكحول، بيد أنه على الرغم من ذلك كان
من الممكن أن يكون شرائي لمشروب كحولي خلال رحلتي أمرا صعبا وخطرا.
بعد أيام قليلة من الحفلة، سألت مرافقي هل استطيع قيادة سيارة، وهو أمر كنت احتاجه إذا أردت التنقل في البلاد. ففي يونيو/حزيران من العام الماضي،
وفي أعقاب سنوات من حملة ناشطين حقوقيين، قررت المملكة السماح للناس بقيادة
السيارات لأول مرة في تاريخها. كانت هذه الخطوة جزءا من مرحلة أوسع من التغيرات الاجتماعية التي شهدت أيضا افتتاح البلاد لأولى صالات السينما
فيها.
كنت قد حصلت مؤخرا على إجازة قيادة السيارات في بريطانيا ومتلهفة لممارسة حرية حُرمت المرأة في السعودية منها لوقت طويل، بيد أن ذلك
جاء عندما اتخذت الأمور مسارا غير متوقع نحو الأسوأ.
وبينما كان
مرافقنا يستعير لنا سلك توصيل من سيارة أخرى كي أتمكن من ربط تلفوني
والاستماع إلى الموسيقى عبر سماعات السيارة، بدأت في قراءة مقال بصوت عال
عن ناشطات حقوقيات سعوديات اعتقلن في الوقت نفسه تقريبا الذي رفع فيه الحظر على قيادة المرأة للسيارات. لقد أردت معرفة هل أنهن ما زلن في السجن، وكما
توقعت، لقد بقين وراء القضبان.
ولم اتفاجأ، فأنا أعرف أن محاربة النظام في السعودية قد تقودك إلى
السجن، إذ استرق أحد أفراد طاقم الإنتاج السعودي استرق السمع لكلامي،
وانتابه الغضب، ليس بشأن القصة نفسها، بل لأنه شعر أنني كنت انتقد المملكة ولا احتفي بشجاعة النساء كما كنت أشير.
وقبل أن أعرف بذلك، أُجريت اتصالات هاتفية برؤساء الفريق وبطاقمنا الانتاجي في بريطانيا. لقد صدمت
وشعرت بخوف شديد، لم أكن أنوي إيذاء مشاعر أي شخص أو إحباطه. كل ما فعلته
قراءة مقال. ولم يشر لي أي بحث في العالم بأن ذلك يُعد إهانة في المملكة.
اتصل
بي محررنا المسؤول في بريطانيا لإبلاغي بأن علي أن أغادر السعودية فورا.
لم يكن قد مضى علي هناك سوى ستة أيام ولدي الكثير من العمل المخطط له، كان
علي الذهاب إلى ناد مختلط لممارسة رياضة الجري، واللقاء بنساء رائدات في
مجال الأعمال، ولكن الآن يجب علي حزم أمتعتي والرحيل...
لم أكن
اعتقد أنني سأُعتقل- بالتأكيد لن أكون في مثل هذا الوضع لمجرد قراءة مقال- بيد أنني لم أشأ المجازفة، لا سيما أنني هناك بموجب تأشيرة دخول يمكن أن تلغى بسهولة. ودعت عماتي والدموع تغمر عيني وتوجهت إلى المطار متلهفة
للخروج من تلك البلاد.
وعندما هبطت في مطار هيثرو، شعرت أنني استطيع
التنفس وبشعور أشبه بأنني بت خارج سيطرة المملكة. لم أشعر أبدا بلحظة أكثر
سعادة من كوني بريطانية وأعيش في مكان ما متمتعة بحرية تعبير أكبر، ولن
استبدل ذلك أبدا.
No comments:
Post a Comment